توقّف الزمن عندها يوم فُقِد، كل السنوات التي مرّت لم تغيّر صورته في خيالها، صورة الشاب الذي كان يملأ البيت بحركته. تدخل غرفته كل صباح لعلّها تجده نائمًا فتحاول إيقاظه ليرفض هو ذلك وتستمر هي في المحاولة حتى تنجح. ولكن الغرفة خالية، والفراش باردٌ لم يزره جسد انسان منذ سنوات. تقف، تنقّل نظرها في زوايا الغرفة، عبثَا تبحث عن أثرِ لمروره إلى أن يعتريها التعب فتخرج من الغرفة لتزورها في اليوم المقبل…
تلك أمٌ تعيش على أمل عودة ابنها ذات يوم…
يتوسّط اسمها الأول واسم عائلتها اسمٌ لرجلٍ لم تعرفه، كانت طفلةً يوم انقطعت أخباره. كم راقبت رفاقها، لكلٍّ منهم والد. أمّا هي، فلم تعرف والدها يومًا. وحدها صورةٌ معلّقةٌ له في المنزل تُثْبِت لها أنّ من أخبروها عنه كان موجودًا فعلًا. لم تحصل يومًا على جواب عند سؤالها عنه، لأن من تسألهم لا يملكون الإجابة. فعائلتها تبحث عن الحقيقة وتسأل عن مصير الوالد مثلها…
تلك ابنةٌ لم تفقد الأمل برؤية والدها يومًا…
لم يمضِ على زواجهما الكثير لتجد نفسها وحيدة، حبيبها وزوجها خرج ذات يوم ولم يعد. رفضت فكرة اصدار شهادة وفاة قبل التأكد من مصيره. كانت تسارع إلى زيارة كل انسان تعلم أن لديه معلومة عن مكان وجوده. أرادت أن تستعيده حيًّا أو ميتًا، فتلك هي العدالة بالنسبة إليها…
تلك زوجةٌ تريد معرفة مصير زوجها…
أمٌ، ابنةٌ، وزوجةٌ، وغيرهنّ الكثير من أهالي المفقودين اللبنانيين منذ عام 1975. أهالٍ مطلبهم الأول “معرفة الحقيقة”، معرفة مصير الشخص المفقود، والبحث عنه، واعادته. مأساتهم أنّهم في وطنٍ لم تعد للانسان فيه أي قيمة. فبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر لا قائمة رسمية وكاملة بأسماء الأشخاص المفقودين في لبنان، إذ تشير بعض الأرقام المعلنة المذكورة غالبًا إلى تقرير للشرطة يعود إلى عام 1991 أفيد فيه عن تسجيل أكثر من 17000 حالة اختفاء، ولكن هذا الرقم ظلّ مثار جدل.
أمّا السلطات فموقفها يتراوح بين التعهّد بالنظر في القضية، وتقديم الأجوبة، والدعم للعائلات، وبين الوعود، وتجديد الوعود. فلقد أُنشئت ثلاث لجان مختلفة لمعالجة الموضوع، ولكن لم يُحْرز للأسف حتى الآن أي تقدُّم ملموس يساهم في كشف مصير الأشخاص المفقودين ومكان وجودهم أو في تلبية حاجات عائلاتهم.
الوقت يمرّ ثقيلًا عند الانتظار، والأهالي في انتظارٍ دائم لخبرٍ عن أحبائهم إن كان سعيدًا أم حزينًا. ولمن يعتقد أنّ معاناة البلد من مشاكل جمّة يعتبر سببًا يحول دون قيام مسؤوليه بمعالجة قضية المفقودين، فذلك ليس عذرًا. ما برح سياسو لبنان ومسؤوليه بتأجيل المشاكل ومراكمتها منذ سنوات وذلك لم يؤدِ سوى إلى بروز مشاكل جديدة وتضخّم القديمة. فرأفةً بالأهالي من آباءٍ وأمهاتٍ وأولادٍ، أيقظوا ضمائركم !
نور زاهي الحسنية