كرامة المرأة في الكتاب المقدس وزمن الكنيسة

 عندما طلبت منّي الآنسة ألِكسا أبي حبيب المشاركة في مؤتَمرٍ خاصٍّ بالمرأة، سارعت إلى القبول، ذلِك أنَّ موضوع المرأةِ وكرامتها بالتحديد، يَشغَلان اليومَ الكثير من الأوساط المحليّة والعالمية، الكنسيّة والمدنيّة. وقد تَقدَّم الغرب في هذه المسالة تقدُّماُ ملموساً، بينما الشرق ما زال في حيرةٍ، ولَم يَحسُم أمره بَعد . وفي هذا الوقت ما زالت المرأة تُعاني ما تُعانيه مِن تسَلُّط الرّجُل والمؤسّسات الدينيّة والمدنيّة على تنوّعِها.

في مطالعتي هذه، سأعالِج الموضوع من زاويَةٍ كتابية مُستَنِداً على الأُسُس اللاهوتية التي قدّمها الكتاب المقدس في عَهديه القديم والجديد، كاشِفاً عن إرادة الله الخالِق، الذي قرّرَ أن يكون الكائن البشري، رَجُلاً وامرأة. وسأسيرُ بسُرعةٍ في الزمن؛ الزمن البشري وزمن الكنيسة، مُسَلِّطاً الضوء على مواضع القوّة والضّعف في النظرة إلى المرأة. وسأخلُصُ إلى استنتاجاتٍ عَمليَة قد تُساعِدُ على الدَّفَعِ بالإتّجاه الإيجابي، فيُصَحّحَ المسار ويُنظَر إلى المرأة كما نظرَ إليها الله “في البدء“، وتَدخُلُ هذه النظرة حيّزَ التنفيذ في مختلف قطاعات الحياة.


1- 
في البَدء

يُشكّلُ سفر التكوين الأساسَ الثابت لِكُلِّ بَحثٍ مسيحيّ يتعلّق بالجنس البشري. هذا الجنس الذي “خُلِقَ على صورَةِ الله ومِثالِه، ذكراً وأنثى(تك1\27)، دون غيرِه من الكائنات الحيّة التي توجَدُ على وجه الأرض، يتوّجُ عمل الخلق كلّه. والحقيقةُ الأساسيّةُ الواردة في روايتي الخلق الأولى والثانية، هي أنَّ الإنسان المخلوق على صورة الله ومثالِه، هو “الرّجُلُ والمرأة” على السّواء.

الرجل والمرأةُ  مُتساويان في الصّورة والمِثال، إذاً في الكرامة والدعوة. وتُبرِز الرواية الثانيّة أهميّة الشخصِ الواحد بالنسبة للآخر عندما تُشير إلى الوِحدة والعزلة التي شعرَ بهما الرّجُل قبل أن تُخلَقَ المرأة، وصرخةِ الفرَحِ التي أطلَقها بعدَ أن وَجَد نفسَهُ إزاءَ شخصٍ “يُناسِبُه”:” هذه المرأة لَحمٌ من لحمي وعظمٌ من عظامي”[1](تك2\23) . إنَّ صرخة الفرح التي أطلقها الرّجُل تعني أنَّ آدم قد تجاوز حالَةَ العُزلة التي كان فيها، والتي لَم يكن يَجِدُ معها “مَعينَةً له على شِبهِه(تك2\20). هل نَفهَم بأنَّ الرّجُل قد وجدَ لَه “معينَةً” تنحصِرُ مهمّتها في مُساعدته على العمل وعلى “إخضاع[2] الأرض(تك1\28)؟ وهل يُختصَرُ وجودُ المرأةِ إلى جانب الرّجل بِكَمٍّ مُعَيَّنٍ من المساعدة اللوجيستيّة؟ كلاّ! فهذه المَعينَة هي“أنا” آخر، في طبيعتها البشرية، “وشريكةُ حياة”[3]سيتّحدُ بها كزوجة “كواحدٍ في إثنين”[4]، تاركاً لهذه الغاية،“أباهُ وأُمّه” (تك1\24).


2- 
الخطيئة واختلال الشّركة بين الأشخاص

يُحدّدُ نصّ سِفر التكوين عواقبَ الخطيئة التي ارتكبها الإنسان، وما أدّت إليه من اختلالٍ للتوازن في العلاقات الأصليّة بين الرجل والمرأة. وعليه، فإننا حين نقرأُ الكلام الموجّه إلى المرأة:”إلى زوجكِ تَنقادُ أشواقُكِ، وهو يسودُ عليك(تك3\16)، نَفهَمُ بأنَّ “سرّ الخطيئة” أو بصفَةٍ أشمل “سرّ الشرّ”، قد استطاعَ أن يَحُطَّ من قَدرِ الإنسان وأن يُصَدّعَ “وحدة الإثنين” والعلاقة التي تجمعهما، وأن يتسلّل إلى كيانٍ يجب أن يقومَ على العطاء المجاني، وأن يبلُغَ حدّ العيش في سبيل الآخر.

إنَّ هذا التسلّط الذي عبّر عنه الكتاب بعبارة “سيسودُ عليكِ“، يعني الإخلال بالمساواة الأساسيّة بين الأشخاص، وهذا سيكون على حساب المرأة أوّلاً لأنّها الطرف الأضعف بنيوياً. ولكن الإساءة إلى كرامة المرأة، التي هي هِبة من الله، سَيَنتَقِصُ أيضاً من كرامة الرجل الحقيقيّة، لأنّه تخطّى بدورِه إرادة الله.


3- 
كرامة المرأة في العهد القديم

عرَف العهد القديم بعض الوجوه الأنثويّة التي لعبت دوراً كبيراً في الحياة السياسيّة والدينيّة[5]إلاّ أنَّ عجلة التاريخ كانت تدفَعُ باتّجاهٍ سلبيّ معادٍ للمرأة(antiféministe) وقد وفّرت الأسفار الحكميّة بعض الأمثلة على ذلك[6]حتّى أنّ  نصّ سِفر الأمثال الذي غالِباً ما نستشهِدُ به للحديث عن المرأة الفاضِلة[7] ، وهو واحدٌ من أجمل النصوص التي كُتبت عن المرأة، يمدحُها في الإطار المنزلي والزوجي لا أكثر، وكأنّا بِه يُكَرِّسُ ، بشكلٍ أو بآخر، واقعاً خاصّاً بِها، لا تستطيع أن تتخطّاه دون الإساءة إلى كرامتها وأُنوثَتِها. ألا نُرَدِّدُ اليوم قائلين:” المرأة خُلِقَت للمطبَخ”.


4- 
وضع المرأة في زمن المسيح

ومن العهد القديم إلى زمن المسيح أو اليهودية المتأخّرة(Judaisme Tardif) ، حيثُ، وبِخلافِ الأدوار الكبيرة؛ السياسيّة والدينيّة التي لعبتها سابقاً، لَم يكن للمرأة  الكرامة التي للرّجل.  


أ- المرأةُ والحياة الدينيّة:

وضِعت المرأةُ على هامش الحياة الدينيّة، وكان وضعُها خاضِعاً لِما يُمليه علماء الشريعة والحاخامات. وقد تدهوَر بشدّةٍ في هذا الزمن، ممّا أدى إلى انزوائها وبُعدِها عن كلِّ حياةٍ إجتماعية ودينيّة. وما زاد من تفاقُم الوضع، الدوافع الدينيّة المُرتبطة بالهيكليّة التيوقراطيّة للشعب اليهودي، المُحاطة بهالَةٍ دينيّةٍ لرجال الدّين، والمُتميّزة بقساوةٍ لا مثيلَ لها تجاه المرأة، والأمثلةُ على هذا الموضوع كثيرة:

–         لَم يكن للمرأة الحقّ في المشاركة في كلّ الصلوات العامّة.

–         كانت محرومةً من التعليم الديني كونها عاجزة عن فهم واستيعاب مضامينه، وتكتفي من الدين ما يختصُّ بالطقوس التطهيريّة.

–         للآباء والأزواج الحقّ في إلغاء بعض نذورها.

–         اعتبارها عائقاً أمام صلاة زوجها؛ عِلماً أنّ طوبيّا صلّى مع امرأته ليلة زفافهما.

–         هناك وقتٌ تكونُ فيه المرأةُ مع زوجها وآخر للصلاة يكون فيه الزوج وحده.

–         في العهود الأولى، لم يكن من تفرِقَةٍ بين الرجال والنساء في هيكل أورشليم والمجامع، ولكن الهيكل الذي بناه هيرودس (القرن الأول قبل المسيح)، وقد دخله المسيح لاحقاً، أبعدَ وفرَّقَ النّساء عن الرّجال؛ فأعطى النساء المقاعد الدونيّة.

–         لا يحقُّ إلاّ للرجال قراءة كُتُب الشريعة والأنبياء.

–         لكي تُقام الصلاة وتُقبَل الذبيحة، يجب أن يتوفّر عشرة رجال على الأقلّ دون أيّ احتساب لعدد النساء.

ولنُدرك جيّداً مدى احتقار المرأة في المجتمع اليهودي المتأخّر، يكفي أن نَذكُر ما كان يُعلّمه أحد الحاخامين: علينا أن نشكر الله على أمورٍ ثلاثة:” أشكرُك يا ربّ لأنّك لَم تَخلُقني وثنيّاً ولا امرأةً ولا جاهلاً“.


ب- المرأة والحياة الإجتماعية:

إنَّ إِبعاد المرأة عن الحياة الدينيّة التي كانت تتحكَّمُ بمفاصِل الحياة اليهودية، قد تُرجِمَ بالكثير من الممنوعات في الشأن الإجتماعي أيضاً. فممنوعٌ على المرأة أن تتكلّم في المجامع أثناء الصلاة، وأن تُدلي بشهادتها. وممنوعٌ عليها القيام بأيّةِ مُحادثَةٍ غير ضرورية مع زوجها.  وممنوعٌ عليها أيضاً المشاركة في المآدِب عندَ وجودِ ضيفٍ في المنزل، حتّى ولو من أجل الخدمة، وذلك تلافياً للتأثير على مجرى المحادثات، وهذا ما أدّى إلى عزلها داخل بيتها. وأمّا الفتيات غير المتزوجات فعليهنَّ الإلتزام بلبس الحجاب.

ج- المرأةُ في الزواج 

وإذا كانَ للمرأة بعض الإعتبار في حالة الزواج، فما ذلِكَ إلاَّ للأهميّة المُعطاة للإنجاب، والوصية القائلة باحترام الأهل(تك1\28 وخروج20\12) .

ومن المُجدي، في هذا الإطار، إبراز الأهمية الأخلاقية للزواج عند اليهود بالمقارنة مع المجتمع اليوناني. فالزواج اليهودي هو المسار الطبيعي ولا مجال لأية علاقةٍ مع الزواني أو العبيد لأنّ الأمر يُعتبر خطأً جسيماً. وفي هذا المجال، نستطيع القول بأّنَّ التقليد اليهودي قد نقل إلى المسيحيّة تصوّراً رفيعاً عن الزواج. لكن، هل هذا يعني أنّ المرأة اليهودية قد استعادت اعتبارها؟ كلاّ. فالأمر ليس كذلِك، لأن مجرّد تشريع تعدُّد الزوجات[8]، يتضمّن تحقيراً للمرأة.

في الزواج اليهودي، يبقى الزوج السيدَ المُطلق، مالِكَ الزوجة، وعليها طاعته كاملاً. صحيحٌ أنّه كانت هناك زيجاتٌ سعيدة ناتجة عن الحبّ، لكن يبقى أنّ الفتاة في عقد الزواج، كانت تُعامل كسلعة دون الأخذ بعين الإعتبار سعادتها الشخصيّة. وفي هذا الواقع، يظهر تأثير حضارة الشرق القديم الذي يستمرّ حتى يومنا هذا، حيث المرأة في بعض المجتمعات، ما زالت تُعتبرُ كخادمة للرجل أو كسلعة يُمكنُه أن يتصرّف بها كما يشاء.

هذا الإحتقار للمرأة يظهر أيضاً وخاصّةً في حالة الطلاق؛ فللرجل وحده حقّ المبادرة في طلب الطلاق والتخلّي عن امرأته. ولا يحقّ لها بعد ذلِك أن تتزوّج مجدّداً من يهودي، لأنَّ مَن تزوّجَ مُطلّقَةً فقد زنى[9] . ومع أنّ الطلاق يوجِبُ تبيان الأسباب، إلاّ أنّ نصّ الشريعة حول هذه الأسباب غير واضِح، لا بل هو وهميّ ويخضع لكلّ التأويلات المناهضة للمرأة[10].


د- الختان والدَنس الدوري والخطيئة الأولى:

وأضافت اليهودية إلى الأسباب الثقافية والإجتماعية المُسيئة للمرأة أُخرى دينيّة ارتكزت على ثلاث: الختان والدَنس الدوري والخطيئة الأولىفالختان يقتصِرُ على الذكور، وهو علامةُ الإنتماء إلى شعب الله، وعدم خضوع المرأةِ له، لأسباب بيولوجية، قد وضعها في خانةِ المهمّشة دينياً، تمهيداً لتهميشها إجتماعياً. والدنس الدوريمُرتبطٌ بالعادة الشهرية عند المرأة، والرجل مُستثنى منه، الأمر الذي يضطرّها إلى الإبتعاد عن العلاقات الإجتماعية لفترةٍ من الزمن، ويؤَخرها بالتالي عن الرجل في ممارسة عيش التقوى والطقوس. وبهذا يظهر الرجل بمظهر المتفوّق وكأنّه من معدَنٍ آخر والأقرب إلى الله. والخطيئة الأولى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحوّاء؛ فهي التي ارتكبتها أوّلاً، ومن ثُمَّ جرّت الرّجُل إلى ارتكابها . والمرأة التي تُمثّلُ حوّاء، لا يمكنها إلاّ أن تظهر كأداة إغراء للرجل الذي عليه أن يتحاشاها، إذ أنّ ضعفه يمنعه عن مقاومة التجربة. من هُنا، وجب تقييدَها ووضعَها تحت سلطة الرجل ككائن قاصِر.

5-   المرأة  في قلب العهد الجديد[11]

أحدَث العهد الجديد ثورةً بالمعنى الديني والإجتماعي وحتى الثقافي. فالمرأةُ كالرّجُل مدعوة إلى قبول ملكوت الله والدخول فيه. وبإمكاننا هنا أن نتكلّم عن شموليّة الخلاص الذي لا يُمَيّز بين رَجُلٍ وامرأة وبين عرق وآخر.


أ- ولِدَ من امرأة

ويُلقي العهد الجديد ضوءً جديداً على كرامة المرأة. فابنُ الله، بحسبِ الكلمات الواردة في الرسالة إلى الغلاطيين، وُلِدَ “في ملء الزمن” من “امرأة”(غل4\4). وإذا كان الرسول لَم يُسَمِّ المرأة “مريم“، فما ذلِكَ إلاَّ لينسَجِمَ مع التعبير الوارد في سِفر التكوين(3\15).

إنَّ تجَسُّدَ ابنِ الله من امرأة يجعلُ من هذه الأخيرة حاضرة في المرحلَة الأسمى والنهائيّة، من مراحِل إعلان الله ذاته للبشرية، أي في الحَدثين الرئيسيّين من تاريخ الخلاص: الخلقين الأوّل والثاني (الفداء).

وهكذا أظهر “ملء الزّمن” ما للمرأة من كرامة خارِقَة.” إنَّ هذه الكرامة تقوم، من جِهَة على ترفيعٍ للمرأة، فائق الطبيعة، إلى مستوى الإتّحاد بالله بيسوع المسيح، ومن جهَةٍ أُخرى يُبرِزُ حدَث الناصرة حالةً من الإتّحاد بالله فريدة، خصّ بِها الله المرأة دون سِواها، أعني مريم، التي اتّحدت بالله إتّحاد الأُمِّ بابنِها، بحيث أصبَحت عذراء الناصِرة أُمّاً لله”[12]. إنَّ كرامة المرأة، ككرامة كُلِّ كائنٍ بشري، تكتملُ في الإتّحاد بالله.

ب- الرجل والمرأة في قلب ملكوت الله

ولَم يُمَيِّز يسوع في الدعوةِ إلى ملكوتِ الله بين رَجُلٍ وامرأة، لا بل رفض بشكلٍ قاطِعٍ التمييز في الكرامة بين الناس، كائناً مَن كانوا. إنَّ رفضه هذا قد أدّى إلى قلب كُلِّ المفاهيم الدينيّة والثقافية والعرقيّة التي عرفتها فلسطين. لِذا، نَجِدُ بأّنَّ دعوتَه إلى الملكوت قد وجدت لها أصداءً كبيرة عند المتألمين والمُهمّشين وبخاصّةٍ عند النساء اللواتي عانينَ ما عانَينَهُ من جورٍ وظُلم وإساءة. والقديس لوقا يُشيرُ إلى النساء اللواتي تَبِعنَ يسوع مع الرسل في كرازتِه(لو8\1-3). ومرقس بدورِه، يتحدَّثُ عن نساء تقيّاتٍ كُنَّ يُرافقن يسوع ويَصرِفنَ من أموالِهنَّ عى جماعة الرّسل[13]. وتلتقي الأناجيل الأربعة على ذكرِ النساء عند أقدام الصليب، أي في المرحلة الأصعب من حياة الربّ، وفي القيامة، وما بعد القيامة، في حياة الجماعة الأولى.

ولأنّ المسيح كان يميلُ بشكلٍ مميّزٍ إلى الفقراء، فهو لَم يتردّد البتّة في التصدّي لكلِّ ما وصفته الشريعة اليهودية بالممنوع[14] وهو جائِرٌ ومشكوكٌ فيه، خاصّةً ما له علاقة بوضع المرأة: لَمَسَ يدَ حماةِ بطرس (مر1\31)، ولَم يُبعِد عنه النازفة (متى9\22)، وارتبطَ بعلاقةٍ عائلية مع مرتا ومريم(لو10\38) مقدّماً بذلِك مشاهِد اجتماعية جديدة. وتحدّث مع السامرية على انفراد(يو4\27)، ودافع عن المرأة الزانية آخذاً جهتها(يو8\3)، وغفر للمرأة التائبة (لو7\37). ولَم تخلو أمثاله من ذكرٍ للنساء، فقدم مثَل المرأة التي راحت تبحث عن درهمها الضائع(لو15\8)، والأرملة التي وقعت بين أيدي القاضي الظالِم(لو18\1-8).

وباختصار، لقد اعتبر المسيح نفسه مسؤولاً عن النساء اليهوديات، خاطئاتٍ كُنَّ أم لا، واللواتي أبعَدَهُنّ المجتمع اليهودي آنذاك عن كُلِّ نشاطٍ إجتماعيّ أو ديني علنيّ، وعرفَ كيف يُخاطبُهُنَّ ببساطة، وأن يُجيب على انتظاراتِهِنَّ العميقة وعطشِهنَّ إلى الحياة الروحية. وبهذا المعنى قدَّمَ يسوع لِنساء عصره وبناتِ جنسه، التحرُّر الجوهري الذي هو تحرُّر القلب والضمير. لذا فَمن غير المُستغرب أن نسمعَ الإنجيل يُحدّثُنا عن نساءٍ تجرأنَ وخرقَن بدورِهنَّ مُحرّماتِ الشريعة اليهودية وسِرن وراء يسوع[15]، حتّى ولو أدى ذلِك إلى تعرُّضِهِنَّ لأخطار حقيقيّة من أزواجهنَّ ومن رجال الدين ومن المجتمع على السّواء.

وعندما نرى كيف أنَّ المسيح سمَح للنساء بأن تَتَبعَه في الرسالة، بعد أن اختار رُسلَه الإثني عشر، وعندما نرى شجاعة هذه النسّاء التي فاقت شجاعة التلاميذ باتّباعهن المسيح على درب الجلجلة وبزيارتهنّ للقبر، نُدرك عُمقَ العلاقة الإيمانية التي ربَطت تِلك النساء بيسوع.

صحيح أنّ ما علّمه يسوع وقام بِه تجاه المرأة قد شكّل تحدّياً جذرياً في المجتمع اليهودي آنذاك، ولكنّ الأسئلة التي تبقى حاضرة حتّى الآن هي التالية: لِماذا لَم تُعطِ هذه الثورة إلاّ القليل من النتائج؟ لِماذا لَم تَدُم طويلاً؟ لِمَاذا لَم تُفرَض هذه المبادىء؟ لِماذا لَم يذهب المسيح بعيداً فيضُمّ إلى جماعة الإثني عشر بعض النسوة؟.


6- 
النساء في الجماعة الأولى
 

بقيت المرأة في الجماعة الأولى خادمةً أمينةً للربّ القائم من بين الأموات في وسط الجماعة. وها هو الإنجيلي لوقا يتحدّث عن نساءٍ كُنَّ ينتظرنَ في الصلاة، مع الرسل الإثني عشر ومريم، حلول الروح القدس(أع14-14). والأرجح أنَّ هؤلاء النسوة هُنَّ أنفُسُهنَّ النسوة التي أشار إليهنَّ الإنجيل.


أ‌- 
النساء في كتاب أعمال الرسل

يُشير كتاب أعمال الرسل إلى العديد من النساء ويُعطيهنَّ أوصافاً راقية: طابيتا من يافا التي كانت “غنيّةً بالأعمال الصّالِحة وبالصدقات التي كانت تصنعُها”(أع9\36)ومريم أمّ يوحنّا المُلَقّب بمرقس، التي قدَّمت بيتها ليكون مكاناً لصلاة الجماعة المسيحية في أورشليم(أع12\12). وليديا بائعةُ الأرجوان في طياطيرة، عابدةُ الله، التي ألزَمت بولسَ وسيلا وطيموتاوسَ، أن يدخلوا فيقيموا في بيتها(أع16\14-15). وفي أسفاره الرسولية، التقى بولُسَ بنساءٍ كثيرات تركنَ أفضلَ الأثر على الكنيسة، وقد قام بذكرِ عددٍ منهُنَّ في خاتمةِ رسالته الطويلة إلى أهل روما حيثُ أوصى الجماعة بِفيبَةَ أُختِه، وهي خادمةُ الكنيسة في قنخريّة، وبِرسَقَة وأكيلا معاونَيه في المسيح…ومريم التي تَعِبَت جدّاً في سبيلِه، وترِيفينَةَ وتَريفوسَةَ اللتين تعبَتا في خدمة الربّ، و برسيسَ الحبيبة التي بدورِها تَعِبَت جدّاً في خدمة الربّ، وأمِّ رُوفُسَ التي هيَ أمٌّ له أيضاً، وجوليا وأُختُ نيريُس(روم16\1-15).

ولَم يخلو العهد الجديد من نبيّاتٍ تنبأنَ بدورِهنَّ بتأثيرٍ من الروح القدس الذي أفاضه الله على البَنين والبنات بحسبِ نبؤة إرميا. فالمُبشّر فيليبُّس أحدُ الشمامسة السبعة، الذي أقامَ عنده بولسَ في قيصريّة:”كانَ لَهُ أربعُ بَناتٍ عذارى يتنبَّأنَ(أع21\9).


ب‌- 
النساء في كتابات بولس: 

مَن يقرأ الرسالة إلى الغلاطيين يقعُ فيها على دلائلَ من الطراز الرفيع تدفع بالمرأةِ إلى الواجهة، فهي واحدة مع الرجل في نظام النعمة :” ولا فَرقَ الآنَ بَينَ رَجُل وا‏مرأةٍ، فأنتُم كُلُّكُم واحدٌ في المَسيحِ يَسوعَ(غل3\28).

إنّ ما ورد في غلاطية كافٍ وحاسِم من وجهة النظر اللاهوتية والعقائدية، وينسَحِبُ بدوره على كلِّ ما جاء في الرسائل الأخرى، ولو أنّ ما جاء في بعضِها قاسٍ ومُشَكّكٍ بعض الشيء.  إنَّ ما ورد في غلاطية  عن الرجل والمرأة يُضيفُ إلى ما ورَد في سفر التكوين:”ذكراً وأُنثى خلقهما(تك1\27)، نور العهد الجديد.

أمّا ما جاء على لسان بولس في الرسالة الأولى إلى كورنتس فليس من شأنِه أن يتنكَّرَ لِما جاء في رسالته إلى غلاطية. ففي جماعةِ كورنتُس كان النساء أيضاً يتنبّأنَ كالرّجال، ويُصَلّينَ بصوتٍ عالٍ بإلهامٍ من الروح القدس. وبولس لَم يمنعهُنَّ من الصلاةِ بصوتٍ عالٍ ولكنّه طلبَ منهُنَّ أن يُغطينَ رؤوسَهُنَّ أثناء الصلاة بِخلافِ الرّجال، كعلامةٍ للخضوع. ولكنّه في الفصول اللاحقة عاد إلى قولِ ما من شأنِهِ أن يُشكّلَ صدمةً في موضوع المرأة:”فلتَصمُتِ النّساءُ في الجماعة، لأنّه لا يُسمَحُ لَهُنَّ بالكلام، بل ليَخضَعنَ كما تقولُ الشّريعة (1قور14\34-35). إنَّ قراءةً دقيقة للرسالة تجعلنا نفهَم بأّن بولس لَم يكن يتكلّم عن صمت النساء بالمطلق، بل عن التحدُّث بالألسن، لاعتباراتٍ عديدة قدّمنا لها شرحاً وافياً في الحاشية[16].

و في الرسالة الأولى إلى طيموتاوس نقرأُ على لِسانِ بولُسَ قولُه: “وعلى المَرأةِ أنْ تَتعَلَّمَ بِصَمتٍ وخُضوعٍ تامٍّ، ولا أُجيزُ لِلمَرأةِ أنْ تُعَلِّمَ ولا أنْ تَتسَلَّطَ على الرَّجُلِ، بَلْ علَيها أنْ تَلزَمَ الهُدوءَ(1طيم2\11-14). وبِما أنّه لا يحقُّ للمرأة أن تُعلِّم، فهي مُستقصاتٍ بشكلٍ طبيعي عن الأسقفيّة والكهنوت حيثُ بإمكانها أن ترعى وتُدبّر الجماعة.ولكن هل من مهمّةٍ تقوم بها المرأة على مستوى الخدمة الكنسيّة؟ نَجدُ ملامِح إجابَةٍ على هذا السؤال في الفصل الثالث من الرسالة الأولى إلى طيموتاوس حيث جاء:” كذلِك يجبُ أن تكونَ الشّماساتُ رصيناتٍ، لا مُفتِناتٍ، يَقِظاتٍ، أميناتٍ في كُلِّ شيء(1طيم3\11)، ولن نستفيض في شرح مضمون الاية لضيق الوقت.

وفي الرسالة إلى أفسُس حيث يتكلّم بولس عن ضرورة ” خضوع النساءِ لأزواجهنَّ خضوعَهُنَّ للربّ لأنّ الرجلَ رأسُ المرأة”(أف5\22-23). يُشير الرسول إلى نوعٍ آخرَ من الخضوع المُختلف عن طبائِع وسلوكيّات ذلك الزمان وتقاليده الدينيّة. فالخضوع عند بولس هو خضوعٌ مُتبادل في المحبّة بين الرجل والمرأة وبذات القوّة،  وعلى مثال محبّة المسيح للكنيسة وخضوع الكنيسة له كرأس وقد ضحّى بذاته من أجلها على الصليب(أف5\21).

7-   المرأة في زمن الكنيسة

ممّا لا شكّ فيه، أنّ المرأة قد حظيت باحترامٍ مُميّز في المسيحية. وليس صحيحاً ما يُذكر عن أنَّ آباء الكنيسة من تهميش وإساءة للمرأة في كتاباتهم. فإننا نجدُ نصوصاً كثيرة، تتحدّثُ برُقيّ عن المرأة، ولكننا لا نستطيع أن نُلغي تأثير البيئة الوثنيّة التي عاشوا في كنفِها، وما رافقها من الإنحلال وتفَلّتٍ أخلاقيَين.

نقرأُ عند القديس أغوسطينوس مثلاً، تحليلاً رائعاً لنصّ الخلق في سفر التكوين، يؤكّدُ من خلالِه على كرامةٍ المرأةِ ورِفعتها ومساواتها مع الرجل. يقول :”بحسب سفر التكوين، هي الطبيعة البشرية التي خُلقَت على صورة الله. وهذه الطبيعة موجودَةُ في الجنسَين(الرجل والمرأة)”. وفي مكانٍ آخر يُشيرُ إلى أنَّ المعمودية، ليست سِوى تجديدٌ لهذه الصورة الإلهية في الإنسان. وهذا التجديد خليقٌ بالرجلُ والمرأة على السّواء. ولكن لطالَما بقيت هذه الحقيقة نظرية.

أمّا التقليد المسيحي فقد أكّد على هذه الحقيقة اللاهوتية بشكل قاطع؛ فالمرأة كونها مخلوقٌ من الله، مُفتدىً بيسوع المسيح، هي مساويةٌ للرجل تماماً ومدعوّةٌ مثله إلى الكمال.  ولكنّ هذا اللاهوت لطالما اصطدم بحواجز عديدة عندما أُريدَ منه أن يضَعَ حيّز التنفيذ تلك المبادىء السامية، فبقيت هذه الحقائق نظرية.

وبالإستناد إلى ما سَبَق يُصبِحُ بإمكاننا اختصار وضع المرأة في زمن الكنيسة بالتالي: مساواة وخضوع (Equivalence et subordination): مساواة في نظر الله وخضوع للرجل في المهام الزمنية أي في المجتمع والكنيسة.


8- 
المشكلة في الآداء لا في النصوص

إذاً ليست المشكلة في النصوص الكتابية بل في الأداء، الذي حاول الرجل من خلالِه،عبر التاريخ، أن يُمارِسَ دوره المتسلّط على المرأة في كلِّ مرافق الحياة ، دون أن يسمح لها بأن تأخُذ مكانها الطبيعي في قلب المجتمع والكنيسة. إنَّ تسلُّطاً كهذا يدخُلُ ضمن إطار لعبة الأقوياء الذين يَسعَونَ إلى السيطرة التّامة. وبما أن بُنية الرّجل الفيزيولوجية تُمكّنه من القيامِ بذلِك، فإنَّ الأمر، وللأسف الشديد، قد سار بشكلٍ طبيعيّ عبر التاريخ، وذلِك من دون أيِّ إحراجٍ له، وقد أدى إلى ما أدّى إليه من تمييزٍ فاضِح بين الجنسين، ومن انتهاكاتٍ لكرامة المرأة، دفعت وما زالت تدفع ثمنها غالياً على المستوياتِ كافّةً: الجسدية والنفسيّة والمعنوية والروحيّة والسياسية والإقتصادية.

وفي هذا المجال، ومنعاً للإسترسال، تجدر الأشارة إلى أنّ كرامة المرأة قد انتُهِكت من المرأة نفسها التي ذهبت في المُطالبة بحقوقها إلى حدِّ انتحال ميزات الرّجولة، وفي هذا الأمرِ إهانه لأنوثَتها وطبيعتها المُختلِفة، “فانخراط المرأة في مختلف الفروع المهنيّة، إذا ما حافظ على الethos الأُنثويّ المُميَّز، هو، بِحقّ، بركة لِمُجمَل الحياة الإجتماعيّة، الخاصّة منها والعامّة”[17]. أمّا المساواة في الكرامة فلا تعني أبدأً أن تحُلّ المرأة مكان الرّجُل بَل أن تحُلَّ في مكانها كإمرأة، فإنّها إن لَم تفعل ذلك، ستتعرّض حتماً لتشويه، بل ولفقدان ما تمتاز به من ثروة أساسيّة وهي ثروة ضخمة[18].


9
 -خُلاصة

إذا ما نظرنا بأعيُنٍ ثاقبة ومجرّدة إلى المرأة اليوم، لوجدنا أنّها بحاجةٍ إلى أن تتحرّر من أمرين: استعباد الرّجل واستغلاله، وهو أمرٌ واضحٌ،  واستعبادها لذاتِها، وهو أمرٌ يكشِفُ عنه الإداء الأنثوي في الإعلامُ، بصورة فاضحة. وفي اعتقادي، أنَّ باستطاعتها أن تفعل ذلِك من خلال الإيمان بخصوصيّتها كامرأة وإعطاء النفس الأنثويّة حقّها.

وأختم معكم بهذا القول الرائع للطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني:” أيّتها المرأة يكفيكِ أنّكِ امرأة”. وأُضيفُ إليه قائلاً: أيّتُها المرأة، يكفينا أنّكِ امرأة لنكونَ نحنُ رجالاً، لأنَّ رجولتنا لا تتحقّق إلاّ من خلالِ أُنوثتِك صانعة الرجال.

 SUITES SOURCES

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *